عندما كان في العاشرة من عمره، كثيراً ما كان يقول:
- آه لو كانت عندي حقيبة!.. ومثل بقية الأطفال لو كانت عندي كتب وألعاب!.. أو حتى روايات عندها ستعرفون كيف أجدُّ وأجتهد، لكنْ، كيف للمرء أن يعمل في مثل هذه الظروف؟.
وعندما بلغ الثالثة عشرة أصبحتْ لديه كباقي الأطفال ألعاب ودفاتر وحقائب، ومع ذلك لم يجدَّ ولم يجتهد، وكان يبرِّر موقفه قائلاً:
- آه.. لو كانت عندي ملابس جديدة مثل باقي أصدقائي.. تصوروا أننا جميعاً نعيش في غرفة واحدة!.. كيف يمكن للمرء أن يدرس ويعمل في هذا المكان الصغير..؟. آه لو كانت عندي طاولة وخزانة خاصة لرأيتم ماذا سأفعل!.
في الثالثة عشرة أصبحت لديه غرفة خاصة.. ومع ذلك لم نقرأ له أي شيء. والسبب كما هو معروف:
- شاب في مقتبل العمر مثلي لا يوجد في جيبه عشر ليرات كمصروف شخصي، كيف سيعمل هاه؟. آه لو استطعت شراء الكتب والصور.. آه، ثم آه.. عندها ستعرفون من أنا؟.
تحققت رغبته عندما بلغ العشرين من العمر ومع ذلك النتيجة كانت هي هي:
- آه لو انتهى الفصل الدراسي لأصبح للحياة طعم آخر.. نعم، الحياة شيء والدراسة شيء آخر. عندما أنهى دراستي الجامعية سأكتب أشياء رائعة، آه لو انتهتْ هذه الدراسة !!.
عندما بلغ الرابعة والعشرين أنهى دراسته الجامعية ومع ذلك لم نقرأ له أي شيء. والأسباب والمبررات جاهزة:
- لا أدري لم لا أستطيع العمل.. أظنُّ لو أني أنهيتُ الخدمة الإلزامية لعملتُ ليلاً نهاراً بلا كلل أو ملل..
نعم سأكتب عملاً يتحدث عنه الجميع. آه لو أنهي الخدمة الإلزامية اليوم قبل الغد.
في السادسة والعشرين أنهى خدمته الإلزامية ومع ذلك لم يعمل.. لِمَ؟
- لا أستطيع الكتابة كما أريد.. وكيف يمكنني القيام بذلك وأنا لا أملك ثمن كسرة خبز؟ كيف للمرء أن يكتب ولم يجد فرصته في العمل "تستر آخرته وتحميه من العوز" ؟. آه لو وجدت عملاً لكتبت ليلاً نهاراً، نعم، ليلاً نهاراً حتى يظهر مؤلَّفي.
عندما بلغ الثامنة والعشرين أصبح صاحب وظيفة.
- أنا لا استطيع الكتابة والسلام، وكيف لي أن أقوم بذلك وأنا لا بيت لي، حتى لو كان عشَّـاً صغيراً، ولا مذياع لديَّ كي أستمتع بسماع مقطوعات موسيقية تلهمني الكتابة.. آه لو ملكتُ مذياعاً لعملتُ ليلاً نهاراً دون توقُّف.
بلغ صاحبنا التاسعة والعشرين، استأجر شقة مؤلفة من غرفتين، كذلك اشترى مذياعاً ومع ذلك لم يبدأ بكتابة مؤلَّفه.. سنواتٌ طويلة وهو يهمُّ بالبدء، لكن...!
- آه قاتَل الله الوحدة.. فهي في صدري كسراديب لا نهائية كيف للمرء أن يكتب والوحدة القاتلة تحاصره من كل مكان؟
كيف سيبدع المرء دون دوافع؟ آه أين أنت يا عشقي النبيل؟.
عشق صاحبنا في عقده الثالث، نعم عَشِقَ وعُشِقَ ومع ذلك لم يستطع إنجاز ما حلم به منذ سنوات طويلة.
كان يقول:
- العشق شيء رائع، لكن، ما نفعه دون زواج، آه لو تزوجت لاستقامتْ حياتي وتوازنتْ، عندها سأقوم بتحقيق رغبتي. نعم، لن أهدر دقيقة واحدة دون كتابة، نعم سأعمل ليلاً نهاراً.
تزوج في الثانية والثلاثين، كان سعيداً في زواجه ومع ذلك لم يستطع البدء بمخطوطه، لأنه محقٌ في ذلك على حد زعمه:
- المعيشة صعبة، لا يمكن للمرء أن يبدع وهو يلهث خلف لقمة خبزه. كيف سيكتب، وكيف سيبدع ولا وقت لديه؟ وهذا الشيء الوحيد مما لا يمكن شراؤه.
عندما بلغ السادسة والثلاثين ازدادتْ أرباحه، وبذلك ازداد دخله وتحسَّن مستوى معيشته ومع ذلك لم يتخلَّ عن نقِّه:
- ما هذا؟!! شقة صغيرة، وغرف أصغر، صخب وضجيج، كيف يمكن للمرء أن يبدع وسط هذه الفوضى؟
آه لو كنت أسكن في بيت واسع وكبير، مؤلف من أربع، خمس غرف، عندها لم لا أعمل؟.. حتماً سأبدع.
انتقل صاحبنا الى بيته الجديد عندما بلغ الثامنة والثلاثين، بيت كبير، مؤلف من خمس غرف، لكن المشكلة انه لم يستطع البدء بكتابة مؤلفه بأي شكلٍ من الأشكال. فلم يكن مذنباً على حد قوله:
- كيف يمكن للمرء أن يبدع ويكتب وبيته يقع وسط المدينة؟ صخب المدينة يقتل روح الإبداع. لذلك، ولكي أبدأ بكتابة مؤلَّفي، عليَّ السكن في منطقة هادئة نائية.. فكما يقولون "هنا غبرة وعفرة وقلة واجب". لكن، آه لو أجد ذلك البيت الذي أرغب لعملت ليلاً نهاراً. فأنا أتعطش للعمل منذ سنوات طويلة، إلا ان ظروفي لا تسمح بذلك.
في الأربعين تماماً وجد ذلك البيت وحقق أمنيته، بيت جميل، في منطقة أجمل، لكن هل سيعمل كما يقول؟. خاصة عندما نسمعه يقول:
- آه، كيف يمكن للمرء أن يُبدع ولا توجد لديه طاولة مريحة، ولا لوحات فنية جميلة تزيّن جدران بيته، ولا منمنمات تزيّن خزائنه؟ كيف سيبدع ولا أرائك مريحة لديه ولا حتى سجادات ناعمة !! كيف سيبدع عملاً رائعاً وهو لا يحضر حفلات الموسيقى الكلاسيكية؟؟. لكنه حتماً سيبدع ودون توقف عندما يتوفر كل ذلك. لكنْ، آه .. هل أحصل على هذه الأشياء كلها في يومٍ من الأيام؟!.
نعم لقد حصل على هذه الأشياء النفيسة والنادرة عندما بلغ الثانية والأربعين ومع ذلك لم يبدأ برائعته. فلنسمع مبرراته:
- آه، لو علمتم بحالي.. لا أحد يعرف مشكلة أحد.
مشكلتي ليست مادية، زوجتي رائعة فهي دائماً تمنحني الأمل والتفاؤل، كذلك أولادي فهم رائعون حقاً. بيتي مريح يدخل البهجة والسرور على قاطنه، يطلُّ على بقعة رائعة الجمال، كذلك كل شيء في بيتي غالٍ وثمين، لديَّ متَّسع من الوقت لأكتب وأبدع، لكن، وكما قلت - لا أحد يدري بمشكلتي، آهٍ من هذه الذبابات، تنغص عيشتي وتقلق راحتي، كيف أجلس وأكتب وهي تعكِّر صفو حياتي؟!.. آه لو عرفتم المشاكل التي تواجهني بسببها؟ آه لو لم يكن الذباب لعملت ليل نهار. لكن ماذا عساي فعله والذباب يعرقل إنجاز مؤلفي، فأنا لا أستطيع النوم نهاراً كي أكتب في الليل. لو أغلقت النوافذ لأصبح جو البيت لا يطاق، بالله عليكم أرشدوني ماذا أفعل؟
آه من هذا الذباب .. لولاه لقرأتم أشياء رائعة.
كما لاحظتم، بلغ صاحبنا الثانية والأربعين ومع ذلك لم يفقد الأمل. لذلك سينجز رائعته ذات يوم، لكن متى؟..
عندما تتوفر لديه جميع الشروط وبذلك سيعمل ليلاً ونهاراً وسنقرأ مؤلَّفه العظيم.
عزيز نيسين