[b]بالرغم من كل ذلك الصخب والضجيج ، في وسائل الإعلام المختلفة حول مصطلح أو مفهوم صراع الحضارات ، إلا أن الكثير من الأمم والشعوب ، في أصقاع الأرض ، لم تتشكل لديهم القناعة ، بأن ذلك يمكن أن يلامس الواقع أو يمت إليه بصلة ، فتاريخ الإنسانية يؤكد بأن هناك حضارةً إنسانيةً واحدة فقط ، صبتْ فيها شعوب وأمم وأقاليم الدنيا ، على طول التاريخ ، أفضل ما توصلتْ إليه من رقي وتقدم .
التاريخ المكتوب يقول :
إن ما أنجزته الأمم والمجتمعات المتعددة ، من ثقافات وحضارات انتقل بالاختيار والرغبة ، وبالطلب الحر ، بعد الاقتناع بجدوى الاستخدام والمنفعة ، إلى المجتمعات الأخرى ، المحيطة بموطنه وهناك في الموطن الجديد ، أضافوا إليه ما أضافوا ، بما يناسب محيطهم ودرجةَ تطورهم ، لينتقل بعدها من جديد ، إلى مواطنَ أخرى ، ومن ثَم إلى آفاق أوسعَ وأبعد .. وهكذا مادام قد ثبت النفع منه .
إذن لم يحتج انتشار الثقافات والحضارات إلى صراع ، ولا إلى سلاح ، أو قوة تفرض ، كما يحدث الآن من أجل نشر الديمقراطية على الطريقة الأمريكية ، بل كانت الحاجة إلى الشراكة في الحضارة أساسها المنفعة ، فينتقل ما كان نافعاً ولازماً من مجتمع لآخر ، ومن إقليم إلى إقليم ، حتى يعمَ أصقاعَ الدنيا ، وينتشرَ بملء الحرية والإرادة .
منذ آلاف السنين ، عندما اكتشف الإنسان الزراعة ، في بلاد الرافدين ووادي النيل ، وتوصل إلى أسرارها ، وعرف أساليبها وقام بتطوير تلك الأساليب ، انتقلت تلك الثقافة بالاختيار ، وبحكم الحاجة إلى الجوار ، لم تحتج إلى إقناع ولا إلى صراع ، وبمرور الزمن أصبحت حضارةً إنسانيةً ، يملكها كل من يريد ويرغب .. يمارسها بما يناسبه من أساليبَ .. فهنا استخدم الفأس .. وهناك استخدم المحراث ، وهذا أتقن شقَ القنوات ، وذاك بنى السدودَ وخزّن الفائضَ من المياه ، واستمر ذلك بالتفاعل والتطور ، من أيام وزمان سد مأرب الشهير في اليمن ، وحتى يوم أمس ، عندما تم بناء سد الفرات في سوريا .
وعبر التاريخ الإنساني ، تكرر ما حدث في مجال حضارة وثقافة الزراعة ، ليشمل كافة مجالات الحياة ، من التجارة .. إلى الصناعة حتى وصل إلى تلك الثورة الهائلة ، في الاتصال والمواصلات التي حولت الكرةَ الأرضية ، إلى قرية صغيرة ، يستطيع بواسطتها من يسكن الغابة ، أن يتابع بالصوت والصورة والألوان والظلال ، لحظةً بلحظة ، حفل انتخاب ملكة جمال العالم ، أو أين تعشى الرئيس الأمريكي ، ومتى أوى إلى فراشه .
لم يقتصر انتقال الحضارة من مجتمع لآخر ، على انتقال أدواتها واستخدامها فقط ، إنما شمل التنظيمَ والإدارةَ والقوانينَ ، لكل من أراد ورغب في ذلك ، وكله بالتواصل والتفاعل ، والشراكة الحرة المفتوحة ، عندما توفرت إرادة الفعل ، والرغبة في الرقي والتقدم الذي تضمنته حضارة العلم ، التي هي الشراكة الحقيقية ، في محيط الحضارة الإنسانية ، فلا تحتاج إلى هوية وطنية ، ولا إلى جواز سفر ، حيث لم نسمع عن رياضيات فرنسية ، ولا كيمياء عربية إسلامية ، إنما سارت حضارة العلوم عبر التاريخ ، خطوةً إثر خطوة ، آخذةً من كل نبع ، ومن كل نهر ، حتى وصلت إلى ذلك المحيط الهائل ، الذي حافظ على عالميته ، مترفعاً عن كل الأجناس والأديان والأعراق ، فتحول إلى أساليب حياة ، يمارسها المجتمع الإنساني ، في كل يوم .
من خلال ما سبق ، تكون قد اكتملت الصورة ، أننا على هذا الكوكب أمام حضارة إنسانية واحدة ، شارك فيها الجميع ، أثراها القادرون على الفعل ، تعددت مواردها وتنوعت ، فتشكلت من العمق إلى السطح ، بجهود المجتمع الإنساني المشتركة بكاملها ، كل حسب قدرته ، وإمكانياته وطاقته .
وكما قال التاريخ كلمته عن الشراكة في الحضارة الإنسانية ، فإنه يعلمنا أيضاً ، أن الأقوى على مر العصور ، يحاول الاستيلاءَ على تلك الحضارة ، وتجييرَها إلى قوة بعينها ، كما حدث مع الكثير من الإمبراطوريات .
فكم قاست في القرن الماضي على حد زعمهما ، كل من بريطانيا وفرنسا ، المنتصرتين في الحرب العالمية الأولى ، في سبيل نشر الحضارة وإعمار البلدان ، التي كانت تخضع للسلطنة العثمانية المهزومة ، حيث رأت من واجبها نشرَ الحضارة ، كما تقوم الولايات المتحدة الأمريكية ، بنشر الديمقراطية في هذه الأيام .
بانتهاء الحرب العالمية الثانية ، بدأ نجم الإمبراطوريات القديمة بالأفول ، وبدأت الولايات المتحد الأمريكية ، بالتحضير لمشروعها الإمبراطوري ، وكانت العقبة الوحيدة أمامها ، على الجانب الآخر من الكرة الأرضية ، الاتحاد السوفييتي ، ففرضت مرحلة الحرب الباردة وصراع العقائد نفسها ، ولم نكن في تلك الأيام نسمع بحكاية صراع الحضارات .
ولكن بانهيار المعسكر الاشتراكي ، وخروج الولايات المتحدة منتصرةَ من الحرب الباردة ، من الطبيعي أن تشعر بأن عصرها قد جاء ، وأنها بحكم الحقائق ، قد أصبحت القوةَ الفائقةَ والأكبر على سطح الأرض ، لذلك يجب أن يخطر لها في هذا السياق ، أن مطالب السيطرة والصراع ، تقتضي ادعاء ملكيتها للحضارة ووراثتها فبرز مفهوم أو مصطلح صراع الحضارات إلى الوجود ، فكان ما قامت به ، لم يتجاوز ما ذكره ابن خلدون في مقدمته الشهيرة ، ولكن دون تنبه كاف منها ، أنها لم تستكمل الشروط الأربعة ، التي وضعها ابن خلدون ، حيث ذكر في مقدمته بما معناه :
أن الدولة تتحول تلقائياً إلى إمبراطورية ، إذا امتلكت شروطَ قيامها الأربعة ، وهي :
- القوة الاقتصادية .
- القوة العسكرية .
- القوة العلمية والمقدرة على تطويرها باستمرار .
- الأسباب المقنعة .. الموجبة والمنطقية ، التي تقدمها للشعوب والأمم ، التي جعلتها تتمدد خارج حدودها .
ولكن ماذا لو طبقنا ذلك على الولايات المتحدة الأمريكية ..؟ .
في الواقع لا أحدَ يستطيع أن ينكر ، أن الولايات المتحدة الأمريكية أقوى قوة اقتصادية في العالم .. وأقوى قوة عسكرية .. كما أنها أقوى قوة علمية ، قادرة على إنتاج التكنولوجيا وتطويرها .
ولكن ماذا عن الأسباب المقنعة ، التي عليها تقديمُها للمجتمع الدولي لاستساغة خروجها خارج حدودها ..؟ .
من أولى هذه الأسباب كما تدعي ، هو نشر الديمقراطية ومكافحة الإرهاب .
لقد أعلنت أن هذه الشعوب المظلومة ، والمحكومة بالقمع من قبل حكام ديكتاتوريين ، يعشش فيها الفقر .. بلغت درجةَ اليأس ، ففرّخت الحاقدين على الحضارة الإنسانية ، الذين تشبعوا بثقافة القتل والإرهاب ، والدليل على ذلك ما حدث لها في أيلول 2001 م .
إذن فالصراع ، صراع حضارات .. أو صراع ثقافات .
إن أبرز من صاغ الأطروحات الجديدة ، حول صراع أو صدام الحضارات ، هما المفكران الأمريكيان فرنسيس فوكوياما وصموئيل هنتيجتون ، لتقديم تبرير إيديولوجي ، لإشاعة وترسيخ الوضع الجديد الذي أعقب الحربَ الباردة ، والقائم على أساس القطبية الواحدة ، أي الهيمنة الأمريكية على العالم .
ففرنسيس فوكوياما يرى :
أن العالم يشهد انتصاراً كاملاً ، للرأسمالية والسوق الحرة ، ويعتبر أن هذه النتيجة تشبه إلى حدود كبيرة ، النتائجَ ذاتها ، التي يسفر عنها تطور العلوم الحديثة ، أي أن هناك ما يمكن تسميته (الرأسمالية العلمية ) الممثل للمبدأ الطبيعي ، الذي يمكن أن يدير الحياة الإنسانية على أسس علمية سليمة ، وفي ضوء ذلك أعلن (فوكوياما) في مقالاته وكتابه نهاية التاريخ ، تحول العالم بأسره ، إلى كيان خاضع للقوانين الواحدية المادية ، التي تجسدها الحضارة الغربية .
كما يطرح هينتجتون عدة قضايا ، في إطار أطروحته القائلة (بصدام الحضارات) ومنها:
تصاعد الصراع بين الحضارات ، وتراجع دور الدولة القومية ودخول الحضارات غير الغربية ، كعناصرَ فاعلة في صياغة التاريخ فالغرب لم يعد هو القوةَ الوحيدةَ في هذه العملية ، الأمر الذي أدى إلى نشوء الصراع بينه وبين الآخرين .
والواقع أنه عندما خرجت الإمبراطورية الأمريكية ، منتصرةً في صراع الحرب الباردة ، فإنها رسمت لإستراتيجية زمانها الجديد عدة خطوط :
- فهي تريد أن تحتفظ بتقدمها ، وتمنع ظهور من ينافسها كما حدث مع كل الإمبراطوريات ، وذلك بالاستيلاء على الحضارة الإنسانية .
- كما تريد أن تخفف من مسؤوليتها تجاه الأقاليم ، التي تعثّر فيضها وجفت منابعها ، فهذه الأقاليم بالتخلف ، أصبحت عبئاً على المحيط الحضاري ، تريد أن تأخذ منه إلى الأبد ، بينما عطاؤها توقف من زمن صراع الحضارات .
- ثم إن الإمبراطورية الجديدة ، تريد أن تؤكد سطوتها الأبدية بإظهار تفوقها ، خصوصا في السلاح .
وهكذا وقعت استعراضات التفرد الأمريكي ، في كل الميادين ابتداءً من استثناء كل أمريكي من أي مساءلة دولية مهما فعل .. إلى تميز التجارة الأمريكية في كل الأسواق ، بصرف النظر عن حرية السوق .. إلى استئثار بحقوق الملكية العلمية والفنية ، في كثير مما كان متاحاً ، في مجمع الحضارة الأكبر ، قبل أن تظهر الدولة الأمريكية من الأصل .. ثم إنها لا تقبل أن تردع نفسها ، عن تلويث البيئة تملصاً من قيود تُفرَض على غيرها ، حرصاً على كوكب الأرض نفسه .. كما أنها تطلب احتكار موارد الطاقة ، وليس مجرد النهم في استهلاكها .
- ثم زاد أن الإمبراطورية الأمريكية ، تريد الآن أن تستولي بوضع اليد ، على الحضارة الإنسانية بأسرها ، لتختم طابعها على المحيط بأسره ، تأكيدا نهائيا ، وتقنينا شرعيا لتفوق أبدي .
وضمن هذه المحاولة ، لجأت الإمبراطورية ، إلى حروب رخيصة تستغل بطش الصدمة والرعب ، في مناطق ضعيفة ورخوة ، بأقل التكاليف ، كي تظهر هول الجحيم ، الذي أعدته لمن يعصي الأوامر والتعليمات ، فتحولت أفغانستان والعراق ، إلى ساحات دماء ونار ولهب .
وإذا عُدت الآن إلى مقولة صراع الحضارات أو حوارها ، فربما تكون النقطة الجوهرية ، أنه يتحتم التفرقة باستمرار ، بين شراكة الحضارة ، وبين صراعات القوة ، فالقوة ميدان تصويب وضرب بالنار ، والحضارة شراكة إنسانية دروبها مليئة بالأنوار .
إن طبائع الحضارة تمنع الاستيلاء عليها لحساب أي طرف ، كما ترفض التنازل عن الحق فيها ، تحت أي وصف ، فالحق لا يأتي ببلاغة الإقناع ، لأن سحر الكلمة لا يغني ، عن كفاءة الفعل .
هنا السؤال يطرح نفسه وبصوت عال ، ماذا تريد الأمبراطرية الكاسحة الجديدة ، من نظرية صراع الحضارات ..؟ .
متى بدأت تفكر بها ..؟ .. ما هي الغايات ..؟ .
لقد خلق انهيار المعسكر الشيوعي ، وزوال الاتحاد السوفييتي الممثل له ، فجوة كبيرة في الأيديولوجية الدفاعية ، لنظام السيطرة الغربية في العالم ، فقد كان العداء للمعسكر الشيوعي وما يمثله ، من القيم السلبية في نظر الغرب ، الوسيلة الرئيسية لدفع الجمهور الغربي الواسع ، إلى تأييد السياسات الأطلسية الهجومية ، والالتحاق بها من دون نقد ولا تساؤل ، وبالتالي تبرير هذه السياسات والنفقات العسكرية ، الباهظة المرتبطة بها ، والنجاح انطلاقا من ذلك ، إلى إقناع الرأي العام الدولي ، بأن السيطرة الغربية على العالم ليست أخلاقية فحسب ، لأنها تحول دون انتصار الشر ، ولكنها حتمية أيضا ولا يمكن التراجع عنها ، من دون تعريض مجتمعات الغرب ونظمها الديمقراطية ، وهويتها الثقافية ، وقيمها وأسلوب حياتها اليومية ، للخطر المحدق والأكيد .
وكان من الطبيعي ، أن يقود انحسار النظام الشيوعي وزواله من الوجود ، إلى تصاعد المواقف النقدية ، إزاء سياسات الهيمنة الغربية تماما ، كما كان من المنتظر لزوال الحرب الباردة ومتطلباتها ، أن يقود إلى تراجع النفقات العسكرية وتنامي فرص التفاهم والتعاون الدوليين ، لتحسين شروط حياة المجتمع الدولي برمته ، ومعالجة أقسى مشكلة يعاني منها النوع البشري ، وأعني بذلك الفقر ، الذي يرزح تحت وطأته أكثر من مليار نسمة من سكان الكرة الأرضية .
بيد أن مثل هذه التوجهات ، لم تكن تتضارب مع ما طبع السياسات الغربية والدولية عموما في القرنين الماضيين ، من حروب ومواجهات ، جعلت من تبني مبدأ الاستعداد للحرب ، وكسب النزاعات المحتملة ، القاعدة المثلى ، ليس لتجنب حدوثها فحسب وإنما مع مصالح واسعة ونافذة ، ارتبطت بعقود طويلة من سيطرة مناخ المواجهة والحرب الباردة ، وفي مقدمتها مصالح شركات السلاح .. الجيش .. مؤسسات الدفاع الإقليمية .. والعديد من القوى السياسية التي تتحالف معها .
وهكذا ما كان من الممكن ترك الاتحاد السوفييتي ينهار ، من دون السعي ، من قبل هؤلاء ، لإيجاد عدو جديد ، يبرر الاستمرار في السياسات الهجومية ذاتها ، التي تضفي المشروعية على السيطرة الغربية على العالم ، وتبرر استمرارها .
وقبل أن تبدأ أي حركة إسلامية باستخدام العنف ، على أي نطاق خارج البلدان الإسلامية ، وجد جهابذة السيطرة الغربية ، في رفع العالم الإسلامي والعربي ، إلى مستوى الخصم التاريخي والحضاري الرئيسي للغرب ، سياسةً وحضارةً واقتصاداً معاً ، المرتكز الوحيد لتمديد مناخ الحرب الباردة ، وتبرير سياسات السيطرة الغربية .
وهكذا شكل تشويه صورة العرب والمسلمين واستفزازهم ، خلال أكثر من ربع قرن ، مادة حرب باردة عالمية حقيقية ، لن يتأخر منظرو السيطرة الغربية عن إعطائها ، اسمها الجديد الخاص: "الحرب الحضارية ، والصدام بين الثقافات" .
ومنذ ذلك الوقت يمكن القول ، إن الحرب أصبحت سجالا بين المسلمين والعرب من جهة ، والنخب الغربية اليمينية ، التي سعت ولا تزال ، إلى جر العالم بأكمله لتأييد موقفها العدواني والعنصري من الجهة الثانية .
في هذا السياق ، استعادت إيديولوجية تبرير السيطرة الدولية والسياسات الأطلسية الهجومية ، اللغة والشعارات ذاتها ، التي كانت تستخدمها ضد الاتحاد السوفييتي ، في حقبة الحرب الباردة السابقة .
فركزت وسائل الإعلام الغربية ، على الأخطار المتعددة ، التي يمثلها العالم العربي والإسلامي ، الذي يخضع في نظرها ، مثله مثل الاتحاد السوفييتي السابق ، لثقافة مناقضة في قيمها للثقافة الغربية الحديثة ومعادية لها ، سواء في ما يتعلق باعتماده العنف في علاقاته مع الخارج ، واستلابه لمنطق القوة ، أو في محاولاته المستمرة لتفجير الأزمات الدولية ، والحروب الإقليمية ، أو في دفاعه عن نظم سياسية لا ديمقراطية ، تسمح للمغامرين من الحكام الديكتاتوريين والطغاة ، من التلاعب بالجماهير، ودفعها إلى العداء المجاني للخارج ولكل ما هو أجنبي ، في سبيل حرف انتباهها عن مشاكلها الداخلية المتجذرة ، التي تتسبب فيها سياسات أنانية ولاعقلانية .
وجاءت الحركات المتطرفة ، التي تستخدم الإرهاب والخطف وقتل الرهائن ، كوسائل للضغط على الدول الغربية ، في أوضاع المواجهة القائمة ، في أكثر من مكان ، لتكرس الاعتقاد الواسع الانتشار اليوم بأن عالم العرب والمسلمين ، لا يفهم إلا لغة القوة والعنف ، وإنه يفتقر إلى ثقافة التعايش والتفاهم والحوار والتفاوض ، التي هي لغة العصر ، ومصدر بناء إجماعات دولية لم يكن المجتمع الدولي في أي حقبة ، أكثر حاجة لها منه اليوم .
هذا هو الأصل في ولادة نظرية صراع الحضارات ، أو الصدام بين الثقافات ، كما يشير عنوان كتاب المفكر الأمريكي صموئيل هنتنجتون ، ولكن تبقى نظرية حوار الحضارات ، هي الرد الشكلي والضعيف الباهت عليها .
إن الرد الحقيقي ، هو في العمل على إخراج العالم العربي والإسلامي ، من الأزمة الحضارية التي يعيشها بالفعل ، السياسية والاقتصادية والتقنية والعلمية ، وتبنّي سياسات تحفّز على القيام بنهضة شاملة وعميقة ، عندئذ نُظهر للعالم بشكل عام ، وللغرب بشكل خاص ، أننا لسنا جداراً منخفضاً ، يشجع الجميع على القفز من فوقه أو عليه .
العلمانية هي جزء من مشروع الحداثة الحضاري ، الذي جَمعنا مع الغرب في القرنين الماضيين ، وبقدر تصاعد وتيرة صراعنا مع الغرب ، بسبب سياساته العدوانية من جهة ، وسوء إدارة سياساتنا الخارجية من جهة ثانية ، زاد ابتعادنا عنه ، وزادت نزعة شعوبنا للانفصال عنه ، والارتداد بالمناسبة نفسها عن القيم الحديثة ، التي تربطنا به في مشروع واحد ، وهو ما يفسر في الوقت نفسه ، عودة الرأي العام العربي والإسلامي بأغلبيته ، إلى القيم والأفكار ، التي تميزنا عن الغرب ، وهي بالضرورة ، تلك التي نستمدها من التراث والتاريخ ، لملء الفراغ الناشئ . .
لكن بعكس ما يعتقد الكثيرون ، ليس هدف هذه العودة ، هو العيش في التراث وتفعيل القيم القديمة ، بقدر ما هي وسيلة لبناء ثقافة جديدة مضادة ، وتبرير موقف معاد للغرب ، يعكس النقمة عليه والانتقام منه ، ومن نظم الحداثة التي لم تفرز هنا سوى ممارسات مناقضة تماما ، لما تعلن عنه ، ولا يوجد أي أمل لدى القوى العلمانية والليبرالية ، في استعادة نشاطها وتأثيرها ، من دون إخراج مشروع الحداثة العربي والإسلامي ، بوجهه المادي و الفكري معاً من المأزق ، الذي يعيش فيه منذ عقدين ، أي الخروج من نظام القمع والمضاربة والتلاعب والفساد المعمم ، وإطلاق روح الحرية والقانون ، والمبادرة والعمل المنتج والإبداع .
الذي حدث بعد أن تشبعت المجتمعات الغربية ، بفكرة صراع الحضارات وحوارها ، بدأ التراجع حتى عن القرارات الدولية المتفق عليها والمتخذة سابقاً .
فقبل سنوات ، وحين كان لهذا الإقليم العربي الإسلامي بعض القدرة ، فإنه تمكن من استصدار قرار من الجمعية العامة للأمم المتحدة ، يعتبر الصهيونية نوعا من أنواع العنصرية ، لكنه بعد سنوات ، وعندما حل العجز محل القدرة ، سقط ذلك القرار ، وكان وللأسف بعض العرب والمسلمين ، بين الذين صوتوا لإسقاطه ، ثم صدر بدلا منه قرار يعتبر مناقشة المحرقة اليهودية ، سواء في وقائعها أو في أعداد ضحاياها ، جريمة إنسانية تستوجب العقاب .
لم يكن القرار الأول مجرد ازدواجية معايير لصالح طرف ، ولا كان القرار الثاني مجرد ازدواجية معايير لصالح الطرف الآخر، لكنه في الحالتين ، كان حركة موازين تَرْجَح أو تَخفْ ، وفق ما يسندها من إرادة الفعل ، وقدرة الفعل .
ويستلفت النظر ، أن الثقافات الصينية والهندوكية ، لم تهدر وقتا غاليا في حكاية “صراع الحضارات”، ففي هذه الثقافات الآسيوية كانوا على يقين ، من أنهم شركاء بثقافاتهم في المحيط الواسع . وبهذا اليقين ، أدركوا أن وسيلتهم الرئيسية لتحقيق أهليتهم في حق الشراكة ، أن يبنوا من وسائل القدرة على الفعل ، ما يمنع مهانة الظلم ، أو استعلاء الاحتكار .
ومن المدهش ، أن ثقافات الصين والهند ، والتي كانت الأبعد بالمسافات ، عن البحار المركزية الأولى ، للتدفق الثقافي إلى المنبع وإلى البحر وإلى المحيط ، أظهرت تمسكا وثيقا بحقها ، بينما تخبطت ووهنت ثقافات العالم العربي الإسلامي ، وهي الأقرب والأكثر إسهاما في الكل الحضاري المشترك ، فهي التي أعطته الأديان السماوية كلها ، وبالذات المسيحية ، التي نسمع منهم الآن أنها الدعوى الحضارية الأولى ، لمراكز الغلبة في الوقت الراهن .
ومن سوء الحظ أن الثقافة العربية الإسلامية المعاصرة ، بتأثير ما ترسب فيها من شوائب وعوالق ، وما أصابها من ضعف ووهن وما لحق أصحابها من عقد ، بسبب طول مقاساة غلبة الفاتحين وسيطرة المستبدين ، كانت مهيأة على نحو ما لمحاولة الإقصاء والاستبعاد من شراكة الحضارة .
حين قلنا بصراع الحضارات ، فقد اعترفنا بالعزلة ، وحين دعينا أو دعونا للحوار ، فقد ذهبنا لما يشبه طلب إذن باللجوء ، من متظلم إلى متحكم ، ولم ندرك أن الحقوق ملكية أصحابها ، إذا استطاعوا إثبات جدارتهم بها ، وليس تواضع الآخرين للسماح لهم ببعضها ، ثم إن كل حوار على الحوار بينهم وبين غيرهم لا نهاية له ، خصوصا إذا وقع ، وانزلقت العلاقات بين الأطراف ، إلى صراعات سياسية تتحول بسرعة إلى حروب هويات دينية وعرقية ، فعند هذه الدرجة أي كلام يكون بين غرباء ، أو بين أعداء ، عداوة لا تحتمل غير انتصار طرف وهزيمة آخر ، وهنا يموت الحوار أو ينتحر ، مهما قلنا ، ومهما قالوا .
وما يلفت النظر مرة أخرى ، أن الحوض الحضاري لثقافات الشرق العربي ، لم يستطع أن ينشر مذاقا مميزا له خارج إقليمه ، كما أننا حين قبلنا فكرة صراع الحضارات ، أو حتى حوار الحضارات بالمنطق الذي قُدم لنا ، فإننا سلّمنا بالقسمة ، أي أننا تنازلنا عن الشراكة من أول لحظة ، ودخلنا للأسف في حوزة الآخرين ، وعلى جدول أعمالهم .
ربما كان الأولى أن نبدأ حواراً مع النفس ، نعرف فيه بالضبط :
من نحن..؟ .. وأين نحن..؟ .. وماذا نريد ..؟
وكان مثل ذلك الحوار مع النفس ، كفيلا بتأكيد عدة مسائل :
أولها : الوعي بالحق في شراكة الحضارة ، دون إقصاء أو استبعاد
وثانيها : الجدارة بهذا الحق ، عن طريق دعمه بقيم العصر وأولها روح الحرية والعلم والقانون ، دون العودة إلى الماضي والبحث في كهوف التراث المهجورة ، عن سبب للتقوقع بعيداً عن قيم العصر بدعوى الخصوصية ، وهو نوع من الهرب مقصود ، إذ ليس هناك تصادم بين التنوع المحلي للثقافات ، وبين المشترك في الحضارة الإنسانية ، بل هناك تفاعل وتدفق مساير بالطبيعة لحركة التاريخ .
وثالثها : أننا في حاجة إلى فهم ودرس واستيعاب ، وحوار متواصل مع الدنيا كلها ، ولكن في قضايا ومعضلات الرقي والتقدم .
رابعها : تجنب أفخاخ الاستدراج والاستنزاف ، بسبب ما يفعله آخرون من أصحاب الغرض ، في الإقصاء والاستبعاد ، هؤلاء الذين تنبهوا بسرعة ، إلى ما لحق بالعقلية العربية الإسلامية ، جراء عصور القهر والظلام ، فإذا هم يحاولون تثبيت الانكسار وتعميقه في العقل وفي الإرادة ، لدى العرب والمسلمين ، والسبيل إلى ذلك استثارتهم بين الحين والآخر، بما يدفعهم أكثر وأكثر إلى العزلة .
لقد اكتشفوا ، أنه يكفيهم أن يلمسوا الثقافة العربية الإسلامية في عزيز عليها ، فإذا هي تستثار وتغضب ، ثم تتراجع وتتباعد بحيث تعزل نفسها ، وتتنازل أكثر وأكثر ، عن نصيبها في شراكة الحضارة الإنسانية .
والمحزن أن هناك من اعتدى ، على المقدسات العربية بخشونة وليس لمساً ، حين سيطروا على المسجد الأقصى في القدس ، وفي نفس الاتجاه ، فإن ذات الطرف ، رسم خنزيرا وكتب عليه اسم الرسول الكريم ، وهناك غيره من قام بتوظيف الدين الإسلامي قديمه وجديدة ، في حرب باردة عليه هو ، ساخنة على شباب عربي ومسلم في أفغانستان ، ثم أمسك في النهاية بمن حاربوا لحسابه ، ووضعهم وراء القضبان في جوانتانامو ، ثم داس بالأقدام على كتابهم الكريم ، ومزق صفحاته ورماها في المرحاض ، أمام عيون الجميع في المعسكرات وخارجها .
وفي هذا كله ، لم يغضب أحد ، بل تستر كثيرون .. ولكننا مع ذلك رحنا نحن الذين لم نغضب من الفعل الخشن ، نثور باللمس ، كأننا كنا نبحث عن أهداف سهلة رخيصة ، كما حدث ذلك سابقا في تجربة قريبة ، مع كاتب رواية آيات شيطانية .
وتكرر على نطاق أوسع في تجربة أخيرة ، كما حدث في الرسوم الدانمركية ، ونتيجة الثورة والغضب ، تكرر نشر الرسوم في عدد من عواصم الدنيا ، وكذلك سمع الناس عن رساميها وناشريها لأول مرة في حياتهم .
كأن كاتبا حتى لو كان اسمه “سلمان رشدي” ، يستطيع أن يعتدي على الإسلام ، أو كأن رسام خطوط ، لا يكاد الناس يعرفون اسمه في صحيفة مجهولة ، يستطيع إهانة الرسول الأعز والأكرم ، أو كأن وزيراً إيطالياً شديد الحمق ، يستطيع أن يشتم الإسلام ، لأنه ارتدى قميصاً عليه رسوم بالغة الانحطاط عديمة القيمة .
لكنهم اكتشفوا وجربوا ، كيف يحركون من ردود الفعل ، ما يستثيره الضعف ، ولا تأبه به القوة .
وفي المحصلة ، فإننا نجد أنفسنا بالواقع ، وبسهولة شديدة ومحزنة في نفس الوقت ، نساعد على تحويل صراعات سياسية إلى حروب هويات حضارية ، تخرج غاضبة منسحبة ، من شراكة التقدم الإنساني الجامع والشامل ، مع أي استفزاز يتحول بالإثارة إلى فتنة ويتحول بالفتنة إلى حرب ، ويتحول بالحرب إلى قطيعة ، ويتحول بالقطيعة إلى حصار للذات .
ومن سوء الحظ أن حكومات عربية إسلامية ، بوعي أو بغير وعي ، تصرفت حيال الفتنة ، بقدر كبير من قصر النظر في إدارة الأزمات ، إن لم يكن بقدر كبير من سوء النية ، بمحاولة استغلال الفتنة للإلهاء والتغييب .
وقد أضيف لاستكمال الرؤية والرأي ، أن رغبة الاستغلال لم تقتصر على الحكومات ، وإنما تعدتها إلى مؤسسات وأفراد ، بادعاء أن الترياق الشافي من الفتن ، يتحقق بالوفود تذهب ، وبالوفود تجيء وبالمؤتمرات تعقد ، وبالمؤتمرات تنفض ، وبالأوراق تُقرأ ، ثم بالأوراق تُنسى ، لكي يجري تدويرها وتعود إلى إنتاج نفسها من جديد .
تلك كلها باختصار ، وساوس تجمح بأصحابها ، إلى حيث لا يريدون ولا يقصدون ، فإذا هي عودة من شواطئ المحيط الإنساني الواسع وحيويته الخلاقة ، إلى دروب وعرة موحلة ، تؤدي بنا إلى التقوقع في البحر الميت ، وإلى عزلتنا عن المشاركة ، في صنع الحضارة الإنسانية .